الإصرار على تمرير مشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد بصورته الراهنة، وبأسرع ما يمكن، مع استجابة محدودة لمطالب بعض الهيئات والجهات وإدخال تعديلات جزئية على بعض مواد مشروع القانون التي تحقق بعض المصالح الفئوية، أمر يطرح تساؤلات حول الغاية والغرض من هذا التشريع المقترح.
إن أداء اللجنة التشريعية في مجلس النواب وكذلك أداء بعض الإعلاميين المؤيدين للسلطة في كل ما تقول أو تفعل، زاد على ما يبدو، من المخاوف المشروعة لدى قطاعات واسعة من المدافعين عن الحريات العامة والخاصة وعن حقوق المواطنين التي كفلها دستور 2014، ولم يبددها. فبعض مواده مشروع القانون الذي يجري تداوله تتعارض مع بنود واضحة في الدستور، وتسلب من المواطنين حقوقا كفلها الدستور.
على سبيل المثال، أحد الإعلاميين، المشهور عنه، على نطاق واسع، تأييده لكل ما يصدر عن السلطة والحكومة من قرارات، والذي كثيرا ما تراجع بحماس لا مثيل له عن مواقف سبق أن دافع عنها بمنتهي الحماس أيضاً، بعدما تراجعت الحكومة، دون أن تعلو وجهه أي حمرة للخجل، خرج علينا بعد ساعات من تداول مشروع القانون ومع ظهور بعض التعليقات على المشروع، ليؤكد بلهجة حاسمة أن مجلس النواب سيوافق على هذا القانون لأن المجتمع في حاجة إليه.
وأبدى بعض النواب من أعضاء اللجنة الدستورية والتشريعية، وكذلك بعض نواب اللجنة العامة، تخوفهم من أن تؤدي الأصوات المتعالية التي تعترض على بنود في القانون إلى تعطيل إصدار قانون لا يعرف أحد، على وجه اليقين، من الذي اقترحه وكيف ناقشته اللجنة الفرعية التي شكلتها اللجنة الدستورية والتشريعية، ولا يعرف أحد الوقت الفعلي الذي استغرقته صياغة بنود مشروع القانون التي بلغت 540 مادة، دون أي مذكرة شارحة توضح منطق هذا القانون وفلسفته، ولماذا أدخل هذا الكم من التعديلات على قانون الإجراءات الجنائية 150 لسنة 1950.
والاستعجال لتمرير هذا المشروع المليء بالأخطاء الطباعية والصياغات الفضفاضة وغير المنضبطة، التي لا تليق بقانون مكمل للدستور، وبوصف رجال القانون هو ثاني أهم وثيقة بعد الدستور، أمر يثير الشكوك لدى القطاعات التي تستشعر الضرر العام الذي قد يترتب على إقرار مثل هذا القانون بالنسبة لحقوق المواطنين واحترام حياتهم الخاصة. هناك من يرى أن الاستعجال سببه استعدادات الحكومة للمراجعة الدورية المرتقبة في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، لإظهار تجاوبها مع الملاحظات الواردة في المراجعة الدورية السابقة، لكن هذا التفسير مستبعد، إذ كان من الممكن إدخال بعض التعديلات على التعديلات أدخلت على القانون القديم المتعلقة بمدة الحبس الاحتياطي وإجراءاته، والاستجابة للمقترحات التي قدمت خلال الحوار الوطني، وعلى النحو الذي تحدث عنه رئيس الجمهورية في هذا الشأن. كما أن الاعتراضات على هذا القانون والجدل الذي أثاره وتضمنه مواد تُشكل انتهاكاً لحقوق أساسية للمواطنين نص عليها الدستور، يضيف إلى الانتقادات التي يمكن أن تواجهها الحكومة في المراجعة الوشيكة، وليس من المنطقي أن يكون هذا هو قصد الحكومة.
هناك من يرى أن الدافع الأساسي لهذا القانون هو إحساس عام لدى الحكومة، وربما لدى دوائر أوسع في المجتمع بأن هناك مظاهر متزايدة لعدم انضباط المجتمع وانفلاته، بسبب استغلال ثغرات في قانون الإجراءات الجنائية الحالي، وأخرى في قانون العقوبات، المتوقع أيضاً إدخال تعديلات عليه بعد الانتهاء من قانون الإجراءات الجنائية، لاسيما أن التعديلات الدستورية الخاصة بالسلطة القضائية في عام 2019، مهدت لمثل هذه التشريعات وعلى نحو يشير إلى إصرار السلطة التنفيذية على أن يكون لها اليد العليا في أعمال السلطتين التشريعية والقضائية وتقييد الحريات العامة وحرية الرأي والتعبير.
وحذر خبراء قانونيون، أثناء الحوار المجتمعي بخصوص التعديلات الدستورية، من أن التعديلات المقترحة الخاصة بالسلطة القضائية ستلحق ضرراُ باستقلالها على نحو يؤثر على سمعة القضاء المصري في الخارج. ومع هذا جرى إقرار التعديلات التي شملت المواد 1985 و189 و190 و193 من دستور 2014، ووسعت دور وصلاحيات رئيس الجمهورية في تعيين رؤساء الهيئات القضائية والنائب العام السلطتين التشريعية والتنفيذية، بما في ذلك المحكمة الدستورية، إذ أعطت المادة 193 المعدلة لرئيس الجمهورية الحق في اختيار رئيس المحكمة الدستورية ونائبه، بعد أن كانت موافقته على تعيين رئيس المحكمة إجرائية، وقلصت الدور الرقابي لمجلس الدولة على أعمال السلطة التشريعية على النحو الذي جاء في المادة 190 الخاصة بمجلس الدولة إذ أجاز التعديل الذي أقر، للبرلمان بغرفتيه، مجلس النواب ومجلس الشيوخ، حال إقرار تعديلات أو اقتراح تشريعات، حرية الاختيار في إحالة مشروعات القوانين لمجلس الدولة من عدمه، دون إلزام حسبما كانت تنص المادة، قبل تعديلها، ولم يتم التراجع عن هذا التعديل رغم توصية لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية في مجلس النواب بضرورة الإبقاء على اختصاصات مجلس الدولة كما هي دون انتقاص وعدم تعديل هذه المادة. وبموجب هذا التعديل يحق لمجلس النواب عدم إحالة مشروع قانون الإجراءات الجنائية لمجلس الدولة، لأخذ مشورته بخصوص مواده، الأمر الذي سيكون له أثار مستقبلية عند تنفيذ القانون.
لا شك في الدور الذي يلعبه القانون في ضبط العلاقات بين الأفراد في المجتمع وفي تنظيم ممارسة السلطة التنفيذية والسلطة القضائية لدورهما في فرض القانون وتنفيذه، لكن تجدر الإشارة إلى أن ذلك ينبغي أن يتم على نحو يحقق التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع، وقانون الإجراءات الجنائية تحديداً هو المنوط به تحقيق هذا التوازن، هذه هي فلسفته ودوره، إذ يبين لأعضاء السلطة القضائية والتنفيذية الصلاحيات الممنوحة لهما لفرض القانون وتنفيذه، كما أنه يوفر للفرد ضمانات تكفل تحقيق العدالة وتضمن عدم تعسف السلطة في تنفيذ القانون من خلال توضيح الإجراءات الواجب اتباعها عند تنفيذ القانون بما يضمن للأفراد حرياتهم الخاصة والعامة وحقهم في الحصول على محاكمة عادلة، ولا بد من التأكد من أن مشروع القانون الحالي يحقق هذه الغايات، كي لا يكون القانون أداة لانتزاع الحقوق الدستورية الممنوحة للمواطنين.
إن التريث في إصدار هذا القانون أمر تمليه طبيعة العلاقة بين السلطة التنفيذية ومجلس النواب بتركيبته الحالية والتي قلصت قدراً كبيراً من دوره كممثل للشعب ومعبر عن الإرادة الشعبية وحارس لحقوق الشعب في مواجهة السلطة التنفيذية. ولا بد من إتاحة الوقت لسماع آراء القوى الاجتماعية والسياسية والمنظمات الحقوقية والنقابات، لاسيما نقابة المحامين ونقابة الصحفيين، في مشروع القانون الحالي وعمل ما يلزم من تعديلات من أجل ضبط صياغته لغوياً وقانونياً، والعودة إلى الإجراءات التي كانت متبعة وإحالة مسودة القانون للجنة الفتوى والتشريع بوزارة العدل ومجلس الدولة، لأخذ المشورة القانونية.
كم من القوانين التي لها تأثير كبير على المجتمع التي استغرق إصدارها أكثر من فصل تشريعي لدراسة تأثيرها المحتمل وقابليتها للتنفيذ والتطبيق على نحو غير متعسف. ولا بد هنا من تحقيق التوازن بين المشروعية القانونية للسلطة، والمتعلقة بقدرتها على فرض القانون والنظام العام، وبين الشرعية التي تعبر عن قبول المحكومين ورضاهم عن القوانين والحد فرض الإذعان فقط كآلية للحكم، خصوصاً إذا كان الغرض الرئيسي من القانون هو تحقيق الانضباط في المجتمع.
الأمل معقود على إتاحة الفرصة لمزيد من النقاش والتجويد لإصدار قانون يتوقف عليه تحقيق العدالة في المجتمع، وعلينا أن نتذكر دائماً أن "العدل هو أساس الملك" وهو الآلية الأساسية التي تحقق الاستقرار في المجتمع وفي الدولة. وإذا كان الغرض هو إصدار قانون يساعد السلطة على ممارسة مهامها دون اللجوء إلى انتهاك نصوص في القانون قد تعوق عملها، فلا ينبغي أن يكون هذا على حساب المواطنين واحترام حرمة حياتهم الخاصة والعصف بحقوقهم الطبيعية والدستورية، فتحقيق هذا التوازن هو الطريق للانتقال لحكم القانون كأساس من أسس الجمهورية الجديدة.
----------------------------------
بقلم: أشرف راضي